التشويه الأول الذي تعرضت له جزيرة العرب على يد علماء الآثار التوراتيين هو التشويه الجغرافي، ويقوم على تحويل جزيرة العرب إلى شبه جزيرة بحدودها الحالية متجاهلين أن العرب كانوا يقصدون بمصطلح “جزيرة العرب” ما ذكره الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” وهي حدود ترسمها مياه الخليج ونهري دجلة والفرات وصولا إلى جبال طوروس، ثم انحدارا مع شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى نيل مصر، فالبحر الأحمر وصولا إلى المحيط الهندي من الجنوب.
أما التشويه الثاني فهو افتراض أن الجزيرة المختزلة حدودها إلى حدود شبه الجزيرة العربية حاليا كانت معزولة عن الحضارة قبل القرن السابع الميلادي، متجاهلين مركزية دورها في التاريخ العالمي.
فهي كانت موضع أطماع اللخميين والساسانيين والرومان والبيزنطيين، وحاول الإسكندر المقدوني غزوها، وسبب ذلك يرجع إلى أنها كانت ملتقى طرق التجارة الدولية.
فمنها كان يمر طريق العطور الشهير، وبعد انتهاء دور العطور بانتهاء المعابد الآشورية والمصرية التي كانت تستعملها، تحولت الطريق إلى طريق عظيمة للتوابل وخاصة الفلفل الذي كان سلعة ثمينة في أوروبا لدوره في حفظ اللحوم من الفساد.
وقد أدى ذلك إلى نشوء مراكز حضارية كبيرة في الجزيرة العربية مثل دولة الأنباط التي برزت على طريق العطور، وكذلك تدمر التي دمرها الرومان بعد قرنين من تدمير البتراء.
الحرب على جبهة علم الآثار التوراتي
تكاثرت الأدلة الواقعية على بطلان وزيف علم الآثار التوراتي، فكل المنقبين الموضوعيين لم يجدوا أثرا لبني إسرائيل في المنطقة، ولم يجدوا ما يؤيد قصص التوراة، وبسبب ذلك نشأ جيل جديد من الباحثين الغربيين ممن تصدوا للخرافات التوراتية رغم سطوتها في مجالهم، فدفعوا ثمن ذلك غاليا.
في عام 1992 تم اغتيال عالم الآثار الأميركي ألبرت غلوك الذي كان يعمل محاضرا في جامعة بيرويت.
المغدور الذي من المؤكد أن الصهاينة قتلوه، كان يقود مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وتم الاغتيال لمنعه من نشر نتائج تنقيبه الميداني.
“احتج عالم الآثار الأميركي بوب لاب على الحفريات التي سارع الجيش الإسرائيلي وفريق علماء آثاره إلى إجرائها، وكان لاحتجاجه أبلغ الأثر في طرد إسرائيل من منظمة اليونيسكو”
وفي نفس السياق يذكر المؤلف أن سلطات الاحتلال أوقفت عالمة الآثار البريطانية كاتلين كينون عن العمل عام 1967 بعدما أعلنت نتائج تنقيباتها التي تدحض التاريخ التوراتي حول مدينة أريحا الفلسطينية.
وكذلك فإن العالم الأميركي توماس تومسن صاحب كتاب “التوراة في التاريخ.. كيف يخلق الكتاب ماضيا” فقدَ عمله وتحول إلى العمل في دهان جدران العمارات ليكسب لقمة عيشه، قبل أن تعيد تشغيله جامعة كوبنهاغن في الدانمارك برتبة أستاذ.
وتأتي في هذا السياق مأساة عالم الآثار الأميركي بوب لاب الذي ترأس بعثة تنقيب في فلسطين عام 1962 قرب نابلس وفتح عمله الطريق لنقد علم الآثار التوراتي، فقد فضح التزييف والتشويه الذي لحق بآثار فلسطين على يد علماء الآثار التوراتيين.
وبعد احتلال القدس عام 1967 احتج لاب على الحفريات التي سارع الجيش الإسرائيلي وفريق علماء آثاره إلى إجرائها، وكان لاحتجاجه أبلغ الأثر في طرد إسرائيل من منظمة اليونيسكو، فتم إغراقه في حادث غامض على شاطئ قبرص عام 1970 عقابا له.
كتب غلوك عام 1990 يقول “لقد عملت أربع قوى على صياغة قصة فلسطين المهيمنة اليوم: الأولى هي الموروث التوراتي كما فسرته الأمم الغربية المسيحية، وهو الذي يشكل قصة فلسطين المعتمدة في العالم الأنجلوساكسوني والأوروبي.
والثانية هي التنافس الأوروبي على بسط السيطرة على ساحل شرق المتوسط عامة، وعلى فلسطين خاصة، ذلك التنافس الذي أنتج معرفة متوافرة بالأرض لخدمة الحاجات العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية، ثم استخدام البيانات المتجمعة لهذه الغاية في توسيع القصة المعتمدة سلفا.
والثالثة هي قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين -سكان البلد الأصليين- بشكل مدروس من أجل توفير وطن لليهود اللاجئين من الاضطهاد الأوروبي، وهو ما نتج عنه رفض المثقفين الفلسطينيين القاطع لقصة فلسطين المعتمدة في الغرب، تلك القصة التي استخدمت كتبرير مدبر لوضعهم كلاجئين.
والرابعة هي اختفاء الميراث الفلسطيني من الأدلة الملموسة، بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمد للمصادر الثقافية العربية أو بسبب تدمير الملكية الثقافية المتمثلة في قرى بأكملها عام 1948/1949.
بعد كل هذا تبدو الحاجة ملحة لإعادة قراءة الوثائق الآشورية والبابلية والكنعانية في ضوء اللغة العربية، وبعقلية بعيدة عن الذهنية التوراتية، وذلك من أجل كتابة التاريخ الصحيح لأمتنا وللبشرية، يأخذ بعين الاعتبار الوحدة الحضارية واللغوية للأمة العربية منذ آلاف السنين، وأيضا انغماس العرب في صناعة التاريخ والحضارة البشريين منذ أقدم العصور، وأنهم ليسوا طارئين التاريخ ولا في الجغرافيا.